كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمسك تسعًا من الزوجات، وهذه المسألة أخذها المستشرقون مَأخذًا على رسول الله وعلى شرع الله، كذلك مَنْ لَفّ لَفَّهم من المسلمين.
ونقول لهؤلاء: أنتم أغبياء، ومَنْ لفَّ لفكم غبي مثلكم؛ لأن هذا الاستثناء لرسول الله جاء من قول الله تعالى له: {لاَّ يَحلُّ لَكَ النساء من بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بهنَّ منْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52].
يعني: إنْ ماتت إحداهن لا تتزوج غيرها، حتى لو مُتْنَ جميعًا لا يحل لك الزواج بغيرهن، في حين أن غيره من أمته له أنْ يتزوج بدل إحدى زوجاته، إنْ ماتت، أو إنْ طلقها، وله أنْ يُطلّق منهن مَنْ يشاء ويتزوج مَنْ يشاء، شريطة ألاَّ يجمع منهن أكثر من أربع، فعلى مَنْ ضيَّق هذا الحكم؟ على رسول الله؟ أم على أمته؟ إذن: لا تظلموا رسول الله.
ثم ينبغي على هؤلاء أنْ يُفرّقوا بين الاستثناء في العدد والاستثناء في المعدود، فكَوْن رسول الله يكتفي بهؤلاء التسع لا يتعدَّّاهن إلى غيرهن، فالاستثناء هنا في المعدود، فلو انتهى هذا المعدود لا يحلّ له غيره، ولو كان الاستثناء في العدد لجاز لكم ما تقولون.
ومن ناحية أخرى: حين يمسك الرجل أربعًا، ويفارق الباقين من زوجاته لهن أنْ يتزوجن بغيره، لكن كيف بزوجاته صلى الله عليه وسلم إنْ طلق خمسًا منهن، وهُنَّ أمهات المؤمنين، ولا يحل لأحد من أمته الزواج منهن؟ إذن: الخير والصلاح في أنْ تبقى زوجات الرسول في عصمته.
وما دام {النبي أولى بالمؤمنين منْ أَنْفُسهمْ} [الأحزاب: 6] كذلك يجب أن يكون المؤمنون أوْلى برسول الله من نفسه، ليردُّوا له هذه التحية، بحيث إذا أمرهم أطاعوه.
ثم يقول تعالى: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى ببَعْضٍ في كتَاب الله منَ المؤمنين والمهاجرين} [الأحزاب: 6].
كلمة {وَأُوْلُو الأرحام} مأخوذة من الرحم، وهو مكان الجنين في بطن أمه، والمراد الأقارب، وجعلهم الله أوْلى ببعض؛ لأن المسلمين الأوائل حينما هاجروا إلى المدينة تركوا في مكة أهلهم وأموالهم وديارهم، ولم يشأ أنصار رسول الله أن يتركوهم بقلوب متجهة إلى الأزواج.
فكانوا من شدة إيثارهم لإخوانهم المهاجرين يعرض الواحد منهم على أخيه المهاجر أنْ يُطلّق له إحدى زوجاته ليتزوجها، وهذا لوْن من الإيثار لم يشهده تاريخ البشرية كلها؛ لأن الإنسان يجود على صديقه بأغلى ما في حوزته وملكه، إلا مسألة المرأة، فما فعله هؤلاء الصحابة لون فريد من الإيثار.
وحين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار هذه المؤاخاة اقتضت أنْ يرث المهاجر أخاه الأنصارى، فلما أعزَّ الله الإسلام، ووجد المهاجرون سبيلًا للعيش أراد الحق سبحانه أنْ تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي، فلم تَعُدْ هناك ضرورة لأنْ يرث المهاجر أخاه الأنصاري.
فقررت الآيات أن أُولى الأرحام بعضهم أولى ببعض في مسألة الميراث، فقال سبحانه: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى ببَعْضٍ في كتَاب الله منَ المؤمنين والمهاجرين} [الأحزاب: 6] فقد استقرت أمور المهاجرين، وعرف كل منهم طريقه ورتبَّ أموره، والأرحام في هذه الحالة أوْلَى بهذا الميراث.
وقوله تعالى: {وَأُوْلُو الأرحام} [الأحزاب: 6] تنبيه إلى أن الإنسان يجب عليه أنْ يحفظ بُضْعة اللقاء حتى من آدم عليه السلام؛ لأنك حين تتأمل مسألة خَلْق الإنسان تجد أننا جميعًا من آدم، لا من آدم وحواء.
يُرْوى أن الحاجب دخل على معاوية، فقال له: رجل بالباب يقول: إنه أخوك، فقال معاوية: كيف لا تعرف إخوتي، وأنت حاجبي؟ قال: هكذا قال، قال: أدخله، فلما دخل الرجل سأله معاوية: أي إخوتي أنت؟ قال: أخوك من آدم، فقال معاوية: نعم، رحم مقطوعة، والله لأَكونَنَّ أول مَنْ يصلها.
وقوله تعالى: {إلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْليَآئكُمْ مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] الحق سبحانه يترك باب الإحسان إلى المهاجرين مفتوحًا، فمَنْ حضر منهم قسمة فَليكُنْ له منها نصيب على سبيل التطوع، كما جاء في قوله تعالى: {وَإذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [النساء: 8].
وقوله سبحانه: {كَانَ ذَلكَ في الكتاب مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6] أي: في أم الكتاب اللوح المحفوظ، أو الكتاب أي: القرآن.
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية عامة لموكب الرسل جميعًا: {وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين ميثَاقَهُمْ}.
كلمة إذ، إذا ظرف لحدث، تقول: إذا جاءك فلان فأكرمه، فالإكرام مُعلّق بالمجئ، والمعنى هنا: واذكر إذْ أخذ الله من النبيين ميثاقهم، وهذه قضية عامة في الرسل جميعًا، ثم فصلَّها الحق سبحانه بقوله: {وَمنْكَ وَمن نُّوحٍ وَإبْرَاهيمَ وموسى وَعيسَى ابن مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7].
الميثاق: هو العهد يُؤخذ بين اثنين، كالعهد الذي أخذه الله تعالى أولًا على الخَلْق جميعًا، وهم في مرحلة الذَّرّ، والذي قال الله عنه: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بني ءَادَمَ من ظُهُورهمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسهمْ أَلَسْتُ برَبّكُمْ} [الأعراف: 172].
فما العهد الذي أخذه الله على النبيين؟ العهد هنا هو: الاصطفاء والاختيار من الله لبشر أنْ يكون رسولًا وسفيرًا بين الله تعالى والخلق، وحين يصطفي الله رسولًا ليبلّغ الناس شرع الله، هذا الاصطفاء لا يرد، إذن، فهو عرض مقبول، وحين يقبله الرسول كأنه أخذ عهدًا وميثاقًا من الله تعالى بأنْ يحمل رسالة الله إلى الخَلْق، فهي إذن مسألة إيجاب وقبول.
فقوله تعالى: {وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين ميثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] الآخذ هو الحق سبحانه والمأخوذ منه هم النبيون والميثاق: العهد الموثَّق والعهد تعاهد وتعاقد بين طرفين على أمر يُحقّق الصالح عندهما معًا ولو اختلف واحد منهما ما تَمَّ العقد فإنْ كان الطرفان متساويين اشترط كل منهما ما يراه لنفسه في العقد.
فإنَّ كان الميثاق من الأعلى إلى الأدنى فهو الذي يأخذ العهد للأدنى لماذا؟ لأنك جعلتَه في مرتبة أنْ يعطي عهدًا ويُوثق بينك وبينه أشياء؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {وَميثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم به} [المائدة: 7].
والمواثقة مفاعلة بين الطرفين: أنتم واثقتُموه به وهو واثقكم به؛ لأن الرسل حين يختارهم الله، لا شكَّ أنه سبحانه يعلم حيث يجعل رسالته، فإذا اختار الله رسولًا، فقبول الرسول للرسالة ارتضاء منه بما يريده الله من العهد.
وهل رأينا رسولًا في موكب الرسالات عُرضَتْ عليه الرسالة فرفضها؟ إذن: قبول الرسالة كأنه العهد، جاء من طرف واحد في إملاء شروطه؛ لأنه الطرف الأعلى، وحيثية التوثيق في أن الله اختاره، وجعله أهْلًا للاصطفاء للرسالة.
لذلك رأينا في قصة سيدنا موسى- عليه السلام- لما اصطفاه الله للرسالة آنس من نفسه أنها مسألة كبيرة بالنسبة له، لكن لم يردَّها، إنما طلب من الله أنْ يسانده في هذه المسئولية أخوه هارون، فقال للحق سبحانه وتعالى: {وَأَخي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ منّي لسَانًا فَأَرْسلْهُ مَعيَ ردْءًا يُصَدّقُني} [القصص: 34].
فلم يقل: أنا لا أصلح لهذه المسألة، إنما أذعن لأمر الله، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ومسألة العقدة التي في لسانه يستعين عليها بأخيه.
إذن: كلمة الميثاق تدور حول الشيء المؤكَّد الموثَّق، ومنه قوله تعالى عن الأعداء:
{فَإذَا لَقيتُمُ الذين كَفَرُوا فَضَرْبَ الرقاب حتى إذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوثاق} [محمد: 4].
ثم يأتي تفصيل هذه القضية العامة: {وَمنْكَ وَمن نُّوحٍ وَإبْرَاهيمَ وموسى وَعيسَى ابن مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7].
قوله: {منْكَ} أي من سيدنا رسول الله، خاتم الأنبياء والمرسلين، لكن لماذا قدَّم محمدًا صلى الله عليه وسلم على نوح عليه السلام، وهو الأب الثاني للبشرية كلها بعد آدم عليه السلام؟
نعلم أن البشرية كلها من سلالة آدم عليه السلام، إلى أنْ جاء عهد نوح عليه السلام، فانقسموا إلى مؤمن وكافر، ثم جاء الطوفان ولم يَبْقَ على وجه الأرض إلا نوح ومَنْ آمن به، فكان هو الأب الثاني للبشر بعد سيدنا آدم.
لذلك يقول البعض: إن نوحًا عليه السلام رسالته عامة، كما أن رسالة محمد عليه الصلاة والسلام عامة. ونقول: عمومية نوح كانت لمن آمن به ولأهل السفينة في زمن معلوم ومكان محدد، أما رسالة محمد فهي عامة في كل الزمان، وفي كل المكان.
أما تقديم ذكر محمد صلى الله عليه وسلم أولًا؛ لأن الواو هنا عادة لا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا، إنما هي لمطلق الجمع، ثم قدم رسول الله لأنه المخاطب بهذا الكلام، ومن إكرامه الله لرسوله أنْ يبدأ به في مثل هذا المقام، ثم لهذا التقديم ملحظ آخر نفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم عن نفسه «كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين».
ثم يخصُّ بالذكر هنا نوحًا؛ لأنه الأب الثاني للبشر، ثم إبراهيم وموسى وعيسى، فإبراهيم، لأن العرب كانت تؤمن به، وتعلم أنه أبو الأنبياء، وتُقدّر علاقته بالكعبة ورَفْع قواعدها، وأنه قدوة في مسألة الذَّبْح والسَّعي وغيرها.
وموسى وعيسى؛ لأن اليهودية والمسيحية ديانتان معاصرتان لدعوة رسول الله، حيث كان اليهود في المدينة، والنصارى في نجران، وهما أهل الكتاب الذين كان بينهم وبين رسول الله مواقف شتى، وكانت لهم في الجزيرة العربية السيادة العلمية والسيادة الاقتصادية والسيادة العمرانية والسيادة الحربية، وكأنهم هم أصحاب هذه البلاد.
ومن العجيب أن هؤلاء كان الله سبحانه- في ميثاقهم مع أنبيائهم- يدخرهم ليشهدوا لمحمد بصدْق دعوته؛ لذلك كانوا يستفحتون بمحمد على الذين كفروا ويقولون لعبدة الأصنام: لقد أطلّ زمان نبي سنتبعه، وتقتلكم به قتْل عاد وإرم، فكانوا يعرفون زمان رسول الله وموطنه، وأنه سيُبعث في أرض ذات نخل، ومن صفاتها كذا وكذا، لذلك لما قطَّعهم الله في الأرض أممًا وشتتهم، جاء المشتغلون منهم بالعلم إلى يثرب ينتظرون بعثته صلى الله عليه وسلم.
لذلك يقول تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كفى بالله شَهيدًا بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عندَهُ علْمُ الكتاب} [الرعد: 43].
إذن: فأهل الكتاب كان من المفترض فيهم أنْ يشهدوا لرسول الله بصدْق الرسالة، لكن يحكي القرآن عنهم بعد هذا كله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا به فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين}.
[البقرة: 89].
فكيف إذن تم هذا التحول؟ وكيف تنقلب عقيدة القلب إلى تمرُّد القالب؟ قالوا: إنها السلطة الزمنية التي أحبوا أنْ تبقى، وأنْ تدوم لهم. فقد بُعث الرسول وهم أهل مال وتجارة وأهل حرَف وعمارة، وخافوا من رسول الله ومن الدين الجديد أن يسلبهم هذه المكانة، وأنْ يقضي على هذه السيادة، لذلك قال القرآن عنهم: {بئْسَمَا اشتروا به أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بمَآ أنَزَلَ الله بَغْيًا أَن يُنَزّلُ الله من فَضْله على مَن يَشَاءُ منْ عبَاده فَبَاءُو بغَضَبٍ على غَضَبٍ وَللْكَافرينَ عَذَابٌ مُّهينٌ} [البقرة: 90].
لهذا خصَّ بالذكْر هنا موكب الأنبياء موسى وعيسى عليهما السلام.
ونلحظ أن السياق ذكر موسى عليه السلام، ولم يذكر له أبًا، أما في عيسى عليه السلام فقال: {وَعيسَى ابن مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] وهذا دليل على أنه يؤكد الأصالة في الإنجاب، فالأب هو الأصل إنْ وَجد مع الزوجة، فإنْ لم يوجد الأب فالأبوة للزوجة؛ لذلك نسب عليه السلام إلى إمه.
وجاءت هذه المسألة لتبرهن على طلاقة القدرة الإلهية، فمسألة الخَلْق ليست عملية ميكانيكية تخضع لقانون، إنما هي قدرة الله التي خلقتْ آدم بدون أب ولا أم، وخلقت حواء من أب دون أم، وخلقتْ عيسى عليه السلام من أم بدون أب، وخلقتْ سائر الخَلْق من أب وأم، وهكذا استوفى الخَلْق القسمة العقلية في كل صورها.
وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَا منْهُمْ مّيثَاقًا غَليظًا} [الأحزاب: 7] أي: من الأنبياء، والميثاق الغليظ أي المؤكد، فقد وسّعه الله وأكده حينما أخبر أنبياءه ورسله أنهم سيُضطهدون وسيُحاربون من أممهم.
لذلك لم يُوصَف الميثاق بأنه غليظ إلا في هذا الموضوع، وفي علاقة الرجل بالمرأة حين يطلقها، وقد فرض لها مهرًا، فينبغي أنْ يُؤديه إليها، ولو كان قنطارًا، يقول سبحانه: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ منكُم مّيثَاقًا غَليظًا} [النساء: 21].
فسمّى الميثاق بين الزوجين ميثاقًا غليظًا أي: قويًا ومتينًا؛ لأنه في العرْض، ولم يُوصَف الميثاق فيما دون ذلك بأنه غليظ.
وهذا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على الرسل المذكّرين المبشّرين المنذرين جاء تفصيله في قوله تعالى: {وَإذْ أَخَذَ الله ميثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مّن كتَابٍ وَحكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمنُنَّ به وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إصْري قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَا مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].
والشيء الذي شهد الله عليه لا يحتاج إلى قضاء، لكن لماذا أخذ الله هذا العهد؟ قالوا: لأن الذي لا يؤمن بإله ليس لديه دين يتعصَّب له حين يأتي رسول جديد، لكن من الصَّعب على الإنسان أن يكون له دين، ثم يأتي رسول جديد ليزحزحه عن دينه، وهنا تكمن المشقة التي يعانيها الرسل.
لذلك قال الله تعالى للرسل: من تمام ميثاقكم أن تقولوا لأقوامكم إذا جاءكم رسول مُصدّق لما معكم لتُؤمنن به ولتنصرنه، ثم أقررهم على ذلك، وأشهدهم عليه فشهدوا، والمعنى: إياكم أن تتركوا أممكم التي تؤمن بكم بدون أنْ تضعوا لهم هذه القاعدة، ففيها الوقاية لهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {لّيَسْئَلَ الصادقين عَن}.
اللام هنا في {لّيَسْأَلَ} [الأحزاب: 8] لام التعليل، فالمعنى أننا أخذنا من النبيين الميثاق، لكن لن نتركهم دون سؤال {وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين ميثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] لماذا؟ {لّيَسْأَلَ الصادقين عَن صدْقهمْ} [الأحزاب: 8] لكن إذا كان المبلّغ صادقًا، فكيف يسأل عن صدقه؟
سؤال الصادق عن صدْقه ليس تبكيتًا للصادق، إنما تبكيتًا لمن كذَّب به، سنسأل الرسل: أبلغتم هؤلاء؟ ويقول تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجبْتُمْ} [المائدة: 109] ويسأل الله القوم: {أَلَمْ يَأْتكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتي وَيُنذرُونَكُمْ لقَاءَ يَوْمكُمْ هذا} [الأنعام: 130].
فالاستفهام هنا للتقريع والتبكيت لمن كذَّب.
أو: يكون المعنى {لّيَسْأَلَ الصادقين عَن صدْقهمْ} [الأحزاب: 8] أي: أنتم بشَّرتم بأن الإله واحد، فأنتم صادقون؛ لأنكم أخذتُمْ هذه مني، ولما قامت الساعة ولم تجدوا إلهًا آخر يحمي الكافرين، إذن: فقد صدقت فيما أخبرت به، وصدقتم فيما بلغتم عني، حيث لم تجدوا في الآخرة إلا الإله الواحد.
لذلك يقول سبحانه: {وَوَجَدَ الله عندَهُ فَوَفَّاهُ حسَابَهُ} [النور: 39] ولو كان معه سبحانه إله آخر لَدافع عن هؤلاء الكافرين، ومنعهم من العذاب.
كذلك يسأل الرسل عن البعث الذي وعد الله به، وبلَّغوه لأممهم، وعن الحساب وما فيه من ثواب وعقاب، وكأن الحق سبحانه يسألهم: هل تخلَّف شيء مما أخبرتكم به؟ هل قصرت في إثابة المحسن أو معاقبة المسيء؟ إذن: صدق كلامي كله.
كما تجلس مع ولدك مثلًا تراجع معه المواد الدراسية، وتحثُّه على المذاكرة فيُوفَّق في الامتحان، ثم تسأله: ماذا فعلت في إجابة السؤال الفلاني؟ فأنت لا تقصد الاستفهام، إنما تستعيد معه أمجاد ما أنجزه بالفعل تسأله عن توفيق الله له، كذلك الحق سبحانه يستعيد مع الرسل وَقَفْتهم لدين الله وإعلاءَهم كلمة الحق في هذه الساعة ولا مردَّ لها.
إذن: فسؤال الصادقين عن صدقهم تكريم لهم، وشهادة بأنهم أدَّوْا ما عليهم، وهو كذلك تبكيت لمن كذَّب بهم.
ثم يقول سبحانه: {وَأَعَدَّ للْكَافرينَ عَذَابًا أَليمًا} [الأحزاب: 8] والفعل الماضي هنا دليل على أن كل شيء معدٌّ وموجود سَلَفًا، ولن ينشيء الحق سبحانه شيئًا جديدًا، كذلك قال عن الجنة {أُعدَّتْ للْمُتَّقينَ} [آل عمران: 133].
وسبق أنْ أوضحنا أن الله تعالى خلق الجنة لتسع الناس جميعًا إنْ آمنوا، وخلق النار كذلك تسع الناس جميعًا إن كفروا، يعني: لن تكون هناك أزمة أماكن، فإذا ما أخذ أهل الإيمان أماكنهم من الجنة تتبقى أماكن الذين كفروا شاغرة، فيقول تعالى للمؤمنين: خذوها أنتم: {وَتلْكَ الجنة التي أُورثْتُمُوهَا بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72].
وقد وصف العذاب مرة بأنه أليم، ومرة بأنه مهين، ومرة بأنه عظيم، ومرة بأنه شديد، ولكل منها ملحظ، فالأليم يُلحظ فيه القسوة والإيلام، والعذاب المهين يُلحظ فيه إهانة المعذَّب والنيل من كرامته، فمن الناس مَنْ يحاول التجلُّد، ويُظهر تحمل الألم وعدم الاكتراث به، في حين يؤلمه أنْ تنال من كرامته، فيناسبه العذاب المهين. اهـ.